فصل: تفسير الآيات رقم (35- 37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ ‏(‏36‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ‏(‏38‏)‏ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

اختلف المتأولون فيمن عنى بقوله‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏ فقال ابن زيد‏:‏ عنى به من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وشبهه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمعنى‏:‏ مدحهم بأنهم لشدة إيمانهم يسرون بجميع ما يرد على النبي عليه السلام من زيادات الشرع‏.‏

وقال قتادة‏:‏ عنى به جميع المؤمنين، و‏{‏الكتاب‏}‏ هو القرآن، و‏{‏بما أنزل إليك‏}‏ يراد به، جميع الشرع‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المراد ب ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏ اليهود والنصارى، وذلك أنهم لهم فرح بما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من تصديق شرائعهم وذكر أوائلهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويضعف هذا التأويل بأن همهم به أكثر من فرحهم، ويضعف أيضاً بأن اليهود والنصارى ينكرون بعضه‏.‏ وقد فرق الله في هذه الآية بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب‏.‏

و ‏{‏الأحزاب‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هم اليهود والنصارى والمجوس، وقالت فرقة‏:‏ هم أحزاب الجاهلية من العرب‏.‏ وأمره الله تعالى أن يطرح اختلافهم ويصدع بأنه إنما أمر بعبادة الله وترك الإشراك، والدعاء إليه، واعتقاد «المآب» إليه وهو الرجوع عند البعث يوم القيامة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ المعنى‏:‏ كما يسرنا هؤلاء للفرح، وهؤلاء لإنكار البعض، كذلك ‏{‏أنزلناه حكماً عربياً‏}‏، ويحتمل المعنى‏:‏ والمؤمنون آتيناهموه يفرحون به لفهمهم به وسرعة تلقيهم‏.‏

ثم عدد النعمة بقوله‏:‏ «كذلك جعلناه» أي سهلنا عليهم في ذلك وتفضلنا‏.‏

و ‏{‏حكماً‏}‏ نصب على الحال، و«الحكم» هو ما تضمنه القرآن من المعاني، وجعله ‏{‏عربياً‏}‏ لما كانت العبارة عنه بالعربية‏.‏

ثم خاطب النبي عليه السلام محذراً من اتباع أهواء هذه الفرق الضالة، والخطاب لمحمد عليه السلام، وهو بالمعنى بتناول المؤمنين إلى يوم القيامة‏.‏

ووقف ابن كثير وحده على «واقي» و«هادي» و«والي» بالياء‏.‏ قال أبو علي‏:‏ والجمهور يقفون بغير ياء، وهو الوجه‏.‏ وباقي الآية بين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك‏}‏ الآية‏.‏ في صدر هذه الآية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم ورد على المقترحين من قريش بالملائكة المتعجبين من بعثة الله بشراً رسولاً‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن بعثك يا محمد ليس ببدع فقد تقدم هذا في الأمم‏.‏ ثم جاء قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لرسول‏}‏ الآية، لفظه لفظ النهي والزجر، والمقصود به إنما هو النفي المحض، لكنه نفي تأكد بهذه العبارة، ومتى كانت هذه العبارة عن أمر واقع تحت قدرة المنهي فهي زجر، ومتى لم يقع ذلك تحت قدرته فهو نفي محض مؤكد، و‏{‏بإذن الله‏}‏ معناه‏:‏ إلا أن يأذن الله في ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏ لفظ عام في جميع الأشياء التي لها آجال، وذلك أنه ليس كائن منها إلا وله أجل في بدئه أو في خاتمته‏.‏

وكل أجل مكتوب محصور، فأخبر تعالى عن كتبه الآجال التي للأشياء عامة، وقال الضحاك والفراء‏:‏ المعنى‏:‏ لكل كتاب أجل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا العكس غير لازم ولا وجه له، إذ المعنى تام في ترتيب القرآن، بل يمكن هدم قولهما بأن الأشياء التي كتبها الله تعالى أزلية باقية كتنعيم أهل الجنة وغيره يوجد كتابها لا أجل له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «ويثبّت» بشد الباء‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «ويثبت» بتخفيفها‏.‏

وتخبط الناس في معنى هذه الألفاظ، والذي يتخلص به مشكلها‏:‏ أن نعتقد أن الأشياء التي قدرها الله تعالى في الأزل وعلمها بحال ما لا يصح فيها محو ولا تبديل، وهي التي ثبتت في ‏{‏أم الكتاب‏}‏ وسبق بها القضاء، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم، وأما الأشياء التي قد أخبر الله تعالى أنه يبدل فيها وينقل كعفو الذنوب بعد تقريرها، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها-ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك، وأما إذا رد الأمر للقضاء والقدر فقد محا الله ما محا وثبت ما ثبت‏.‏ وجاءت العبارة مستقلة بمجيء الحوادث، وهذه الأمور فيما يستأنف من الزمان فينتظر البشر ما يمحو أو ما يثبت وبحسب ذلك خوفهم ورجاؤهم ودعاؤهم‏.‏

وقالت فرقة- منها الحسن- هي في آجال بني آدم، وذلك أن الله تعالى في ليلة القدر، وقيل‏:‏- في ليلة نصف شعبان- يكتب آجال الموتى فيمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الموتى‏.‏ وقال قيس بن عباد‏:‏ العاشر من رجب هو يوم ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا التخصيص في الآجال أو غيرها لا معنى له، وإنما يحسن من الأقوال هنا ما كان عاماً في جميع الأشياء، فمن ذلك أن يكون معنى الآية أن الله تعالى يغير الأمور على أحوالها، أعني ما من شأنه أن يغير-على ما قدمناه- فيمحوه من تلك الحالة ويثبته في التي نقله إليها‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود أنهما كانا يقولان في دعائهما‏:‏ اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاوة فامحنا وأثبتنا في ديوان السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا دعاء في غفران الذنوب وعلى جهة انجزع منها‏.‏ أي اللهم إن كنا شقينا بمعصيتك وكتب علينا ذنوب وشقاوة بها فامحها عنا بالمغفرة، وفي لفظ عمر في بعض الروايات بعض من هذا، ولم يكن دعاؤهما البتة في تبديل سابق القضاء ولا يتأول عليهما ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت لأن قريشاً لما سمعت قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله‏}‏، قال‏:‏ ليس لمحمد في هذا الأمر قدرة ولا حظ، فنزلت ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ أي ربما أذن الله من ذلك فيما تكرهون بعد أن لم يكن يأذن‏.‏

وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال‏:‏ معنى الآية «يمحو الله ما يشاء ويثبت» من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنه لا محو فيها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا نحو ما أحلناه أولاً في الآية‏.‏

وحكي عن فرقة أنها قالت‏:‏ «يمحو الله ما يشاء ويثبت» من كتاب حاشى أمر الكتاب الذي عنده الذي لا يغير منه شيئاً‏.‏ وقالت فرقة معناه‏:‏ يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما أراد، ونحو هذه الأقوال التي هي سهلة المعارضة‏.‏

وأسند الطبري عن إبراهيم النخعي أن كعباً قال لعمر بن الخطاب‏:‏ يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة‏.‏ قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏}‏‏.‏ وذكر أبو المعالي في التلخيص‏:‏ أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي قال هذه المقالة المذكورة عن كعب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك عندي لا يصح عن علي‏.‏

واختلفت أيضاً عبارة المفسرين في تفسير ‏{‏أم الكتاب‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ هو الذكر، وقال كعب‏:‏ هو علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأصوب ما يفسر به ‏{‏أم الكتاب‏}‏ أنه كتاب الأمور المجزومة التي قد سبق القضاء فيها بما هو كائن وسبق ألا تبدل، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت- قال نحوه قتادة- وقالت فرقة‏:‏ معنى ‏{‏أم الكتاب‏}‏ الحلال والحرام- وهذا قول الحسن بن أبي الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 43‏]‏

‏{‏وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ‏(‏40‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏41‏)‏ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏42‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏إن‏}‏ شرط دخلت عليها ‏{‏ما‏}‏ مؤكدة، وهي قبل الفعل فصارت في ذلك بمنزلة اللام المؤكدة في القسم التي تكون قبل الفعل في قولك‏:‏ والله لنخرجن، فلذلك يحسن أن تدخل النون الثقيلة في قولك‏:‏ ‏{‏نرينك‏}‏ لحلولها هنا محل اللام هنالك، ولو لم تدخل ‏{‏ما‏}‏ لما جاز ذلك إلا في الشعر، وخص «البعض» بالذكر إذ مفهوم أن الأعمار تقصر عن إدراك جميع ما تأتي به الأقدار مما توعد به الكفار‏.‏ وكذلك أعطي الوجود، ألا ترى أن أكثر الفتوح إنما كان بعد النبي عليه السلام و‏{‏أو‏}‏ عاطفة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإنما‏}‏ جواب الشرط‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ إن نبقك يا محمد لترى أو نتوفينك، فعلى كلا الوجهين إنما يلزمك البلاغ فقط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نعدهم‏}‏ محتمل أن يريد به المضار التي توعد بها الكفار، فأطلق فيها لفظة الوعد لما كانت تلك المضار معلومة مصرحاً بها، ويحتمل أن يريد الوعد لمحمد في إهلاك الكفرة، ثم أضاف الوعد إليهم لما كان في شأنهم‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يروا‏}‏ عائد على كفار قريش وهم المتقدم ضميرهم في قوله‏:‏ ‏{‏نعدهم‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نأتي‏}‏ معناه بالقدرة والأمر، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتى الله بنيانهم من القواعد‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏ و‏{‏الأرض‏}‏ يريد به اسم الجنس، وقيل‏:‏ يريد أرض الكفار المذكورين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا بحسب الاختلاف في قوله‏:‏ ‏{‏ننقصها من أطرافها‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «نَنقصها» وقرأ الضحاك «نُنقصها»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من أطرافها‏}‏ من قال‏:‏ إنها أرض الكفار المذكورين- قال‏:‏ معناه، ألم يروا أنا نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك فننقصها بما يدخل في دينك في القبائل، والبلاد المجاورة لهم، فما يؤمنهم أن نمكنك منهم أيضاً، كما فعلنا بمجاوريهم- قاله ابن عباس والضحاك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا بحسب الاختلاف في قوله‏:‏ ‏{‏ننقصها من أطرافها‏}‏ القول لا يتأتى إلا بأن نقدر نزول هذه الآية بالمدينة، ومن قال‏:‏ إن ‏{‏الأرض‏}‏ اسم جنس جعل الانتقاص من الأطراف بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفرة- هذا قول ابن عباس أيضاً ومجاهد‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ الانتقاص هو بموت البشر وهلاك الثمرات ونقص البركة، قاله ابن عباس أيضاً والشعبي وعكرمة وقتادة‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الانتقاص هو بموت العلماء والأخيار- قال ذلك ابن عباس أيضاً ومجاهد- وكل ما ذكر يدخل في لفظ الآية‏.‏

و «الطرف» من كل شيء خياره، ومنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ العلوم أودية في أي واد أخذت منها حسرت فخذوا من كل شيء طرفاً‏.‏ يعني خياراً‏.‏

وجملة معنى هذه الآية‏:‏ الموعظة وضرب المثل، أي ألم يروا فيقع منهم اتعاظ‏.‏

وأليق ما يقصد لفظ الآية هو تنقص الأرض بالفتوح على محمد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا معقب‏}‏ أي لا راد ولا مناقض يتعقب أحكامه، أي ينظر في أعقابها أمصيبة هي أم لا‏؟‏ وسرعة حساب الله واجبة لأنها بالإحاطة ليست بعدد‏.‏

و ‏{‏المكر‏}‏‏:‏ ما يتمرس بالإنسان ويسعى عليه- علم بذلك أو لم يعلم- فوصف الله تعالى الأمم التي سعت على أنبيائها- كما فعلت قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم- ب ‏{‏المكر‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلله المكر جميعاً‏}‏ أي العقوبات التي أحلها بهم‏.‏ وسماها «مكراً» على عرف تسمية المعاقبة باسم الذنب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏ ونحو هذا‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلم ما تكسب مل نفس‏}‏ تنبيه وتحذير في طي إخبار ثم توعدهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار‏}‏‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «الكافر» بالإفراد، وهو اسم الجنس، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «الكفار»، وقرأ عبد الله بن مسعود «الكافرون»، وقرأ أبي بن كعب‏:‏ «الذين كفروا»‏.‏ وتقدم القول في ‏{‏عقبى الدار‏}‏ قبل هذا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الذين كفروا‏}‏ الآية، المعنى‏:‏ ويكذبك يا محمد هؤلاء الكفرة ويقولون‏:‏ لست مرسلاً من الله وإنما أنت مدع، قل لهم‏:‏ ‏{‏كفى بالله شهيداً‏}‏‏.‏

و ‏{‏بالله‏}‏ في موضع رفع، التقدير‏:‏ كفى الله‏.‏ و«شهيد» بمعنى‏:‏ شاهد، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏ قيل‏:‏ يريد اليهود والنصارى الذين عندهم الكتب الناطقة برفض الأصنام وتوحيد الله تعالى، وقال قتادة‏:‏ يريد من آمن منهم كعبد الله بن سلام وتميم الداري وسلمان الفارسي، الذين يشهدون بتصديق محمد، وقال مجاهد‏:‏ يريد عبد الله بن سلام خاصة، قال هو‏:‏ فيّ نزلت ‏{‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا القولان الأخيران لا يستقيمان إلا أن تكون الآية مدنية، والجمهور على أنها مكية- قاله سعيد بن جبير، وقال‏:‏ لا يصح أن تكون الآية في ابن سلام لكونها مكية وكان يقرأ‏:‏ «ومِن عنده عُلم الكتاب»‏.‏

وقيل‏:‏ يريد جنياً معروفاً، حكاه النقاش، وهو قول شاذ ضعيف‏.‏ وقيل‏:‏ يريد الله تعالى، كأنه استشهد بالله تعالى، ثم ذكره بهذه الألفاظ التي تتضمن صفة تعظيم‏.‏ ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف، وذلك لا يجوز وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض‏.‏ ويحتمل أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره‏:‏ أعدل وأمضى قولاً، ونحو هذا مما يدل عليه لفظ ‏{‏شهيداً‏}‏ ويراد بذلك الله تعالى‏.‏

وقرأ علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك والحكم وغيرهم «ومِن عندِه علم الكتاب» بكسر الميم من «من» وخفض الدال، قال أبو الفتح‏:‏ ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ علي بن أبي طالب أيضاً والحسن وابن السميفع «ومِن عنده عُلم الكتابُ» بكسر الميم من «من» وضم العين من «علم» على أنه مفعول لم يسم فاعله، ورفع الكتاب، وهذه القراءات يراد فيها الله تعالى، لا يحتمل لفظها غير ذلك‏.‏ والله المعين برحمته‏.‏

سورة إبراهيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏1‏)‏ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور والاختلاف في ذلك‏.‏

و ‏{‏كتاب‏}‏ رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب، وهذا على أكثر الأقوال في الحروف المقطعة، وأما من قال فيها، إنها كناية عن حروف المعجم، ف ‏{‏كتاب‏}‏ مرتفع بقوله‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ أي هذه الحروف كتاب أنزلناه إليك، وقوله‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ في موضع الصفة للكتاب‏.‏

قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما‏:‏ إن الإنزال لم يتعلق بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، لكن بالمعاني التي أفهمها الله تعالى جبريل عليه السلام من الكلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لتخرج‏}‏ أسند الإخراج إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث له فيه المشاركة بالدعاء والإنذار، وحقيقته إنما هي لله تعالى بالاختراع والهداية‏.‏ وفي هذه اللفظة تشريف للنبي عليه السلام‏.‏

وعم ‏{‏الناس‏}‏ إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق، ثبت ذلك بآيات القرآن التي اقترن بها ما نقل تواتراً من دعوته العالم كله، ومن بعثته إلى الأحمر والأسود علم الصحابة ذلك مشاهدة، ونقل عنهم تواتراً، فعلم قطعاً والحمد لله‏.‏

واستعير ‏{‏الظلمات‏}‏ للكفر، و‏{‏النور‏}‏ للإيمان، تشبيهاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم‏}‏، أي بعلمه وقضائه به وتمكينه لهم‏.‏‏.‏

و ‏{‏إلى‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إلى صراط‏}‏ بدل من الأولى في قوله‏:‏ ‏{‏إلى النور‏}‏ أي إلى المحجة المؤدية إلى طاعة الله وللإيمان به ورحمته، فأضافها إلى الله بهذه التعلقات‏.‏

و ‏{‏العزيز الحميد‏}‏ صفتان لائقتان بهذا الموضع، فالعزة من حيث الإنزال للكتاب، وما في ضمن ذلك من القدرة، واستيجاب الحمد من جهة بث هذه النعم على العالم في نصب هدايتهم‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر «اللهُ الذي» برفع اسم الله على القطع والابتداء وخبره «الذي»، ويصح رفعه على تقدير هو الله الذي‏.‏ وقرأ الباقون بكسر الهاء على البدل من قوله‏:‏ ‏{‏العزيز الحميد‏}‏، وروى الأصمعي وحده هذه القراءة عن نافع‏.‏ وعبر بعض الناس عن هذا بأن قال‏:‏ التقدير‏:‏ إلى صراط الله العزيز الحميد، ثم قدم الصفات وأبدل منها الموصوف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإذا كانت هكذا فليست بعد بصفات على طريقة صناعة النحو، وإن كانت بالمعنى صفاته، ذكر معها أو لم يذكر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وويل‏}‏ معناه‏:‏ وشدة وبلاء ونحوه‏.‏ أي يلقونه من عذاب شديد ينالهم الله به يوم القيامة، ويحتمل أن يريد في الدنيا، هذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏وويل‏}‏‏.‏ وقال بعض‏:‏ «ويل» اسم واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا خبر يحتاج إلى سند يقطع العذر، ثم لو كان لقلق تأويل هذه الآية لقوله‏:‏ ‏{‏من عذاب‏}‏ وإنما يحسن تأوله في قوله‏:‏ ‏{‏ويلٌ للمطففين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1‏]‏ وما أشبهه، وأما هنا فإنما يحسن في «ويل» أن يكون مصدراً، ورفعه على نحو رفعهم‏:‏ سلام عليك وشبهه‏.‏

و ‏{‏الذين‏}‏ بدل من الكافرين وقوله‏:‏ ‏{‏يستحبون‏}‏ من صفة الكافرين الذين توعدهم قبل، والمعنى‏:‏ يؤثرون دنياهم وكفرهم وترك الإذعان للشرع على رحمة الله وسكنى جنته، وقوله ‏{‏يصدون‏}‏ يحتمل أن يتعدى وأن يقف، والمعنى على كلا الوجهين مستقل، تقول‏:‏ صد زيد غيره، ومن تعديته قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

صددتِ الكأس عنا أمَّ عمرو *** وكان الكأس مجراها اليمينا

و ‏{‏سبيل الله‏}‏ طريقة هداه وشرعه الذي جاء به رسوله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويبغونها عوجاً‏}‏ يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل‏:‏ أظهرها أن يريد‏:‏ ويطلبونها في حالة عوج منهم‏.‏ ولا يراعى إن كانوا بزعمهم على طريق نظر وبسبيل اجتهاد واتباع الأحسن، فقد وصف الله تعالى حالهم تلك بالعوج، وكأنه قال‏:‏ ويصدون عن سبيل الله التي هي بالحقيقة سبيله، ويطلبونها على عوج في النظر‏.‏

والتأويل الثاني أن يكون المعنى‏:‏ ويطلبون لها عوجاً يظهر فيها، أي يسعون على الشريعة بأقوالهم وأفعالهم‏.‏ ف ‏{‏عوجاً‏}‏ مفعول‏.‏

والتأويل الثالث‏:‏ أن تكون اللفظة من المعنى، على معنى‏:‏ ويبغون عليها أو فيها عوجاً، ثم حذف الجار، وفي هذا بعض القلق‏.‏

وقال كثير من أهل اللغة‏:‏ العِوج- بكسر العين- في الأمور وفي الدين، وبالجملة في المعاني، والعَوج- بفتح العين- في الأجرام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويعترض هذا القانون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 107‏]‏ وقد تتداخل اللفظة مع الأخرى، ووصف «الضلال» بالبعد عبارة عن تعمقهم فيه‏.‏ وصعوبة خروجهم منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏4‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

هذه الآية طعن ورد على المستغربين أمر محمد عليه السلام، أي لست يا محمد ببدع من الرسل، وإنما أرسلناك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور على عادتنا في رسلنا، في أن نبعثهم بألسنة أممهم ليقع البيان والعبارة المتمكنة، ثم يكون سائر الناس من غير أهل اللسان عيالاً في التبيين على أهل اللسان الذي يكون للنبي، وجعل الله العلة في إرسال الرسل بألسنة قومهم طلب البيان ثم قطع قوله‏:‏ ‏{‏فيضل‏}‏ أي إن النبي إنما غايته أن يبلغ ويبين، وليس فيما كلف أن يهدي ويضل، بل ذلك بيد الله ينفذ فيه سابق قضائه، وله في ذلك العزة التي لا تعارض، والحكمة التي لا تعلل، لا رب غيره‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فإن اعترض أعجمي بأن يقول‏:‏ من أين يبين لي هذا الرسول الشريعة وأنا لا أفهمه‏؟‏ قيل له‏:‏ أهل المعرفة باللسان يعبرون ذلك، وفي ذلك كفايتك‏.‏

فإن قال‏:‏ ومن أين تتبين لي المعجزة وأفهم الإعجاز وأنا لا أفقه اللغة‏؟‏ قيل له‏:‏ الحجة عليك إذعان أهل الفصاحة والذين كانوا يظن بهم أنهم قادرون على المعارضة وبإذعانهم قامت الحجة على البشر، كما قامت الحجة في معجزة موسى بإذعان السحرة، وفي معجزة عيسى بإذعان الأطباء‏.‏

و «اللسان» في هذه الآية يراد به اللغة‏.‏

وقرأ أبو السمال «بلسْن» بسكون السين دون ألف- كريش ورياش- ويقال‏:‏ لسن ولسان في اللغة، فأما العضو فلا يقال فيه لسن- بسكون السين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا موسى‏}‏ الآية، آيات الله هي العصا واليد وسائر التسع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن أخرج‏}‏ تقديره‏:‏ بأن أخرج، ويجوز أن تكون ‏{‏أن‏}‏ مفسرة لا موضع لها من الإعراب، وأما ‏{‏الظلمات‏}‏ و‏{‏النور‏}‏ فيحتمل أن يراد بها من الكفر إلى الإيمان‏.‏ وهذا على ظاهر أمر بني إسرائيل في أنهم كانوا قبل بعث موسى أشياعاً متفرقين في الدين‏.‏ قوم مع القبط في عبادة فرعون، وكلهم على غير شيء، وهذا مذهب الطبري- وحكاه عن ابن عباس- وإن صح أنهم كانوا على دين إبراهيم وإسرائيل ونحو هذا ف ‏{‏الظلمات‏}‏ الذل والعبودية، و‏{‏النور‏}‏ العزة والدين والظهور بأمر الله تعالى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وظاهر هذه الآية وأكثر الآيات في رسالة موسى عليه السلام أنها إنما كانت إلى بني إسرائيل خاصة، في معنى الشرع لهم وأمرهم ونهيهم بفروع الديانة، وإلى فرعون وأشراف قومه في أن ينظروا ويعتبروا في آيات موسى فيقروا بالله ويؤمنوا به تعالى وبموسى ومعجزته ويتحققوا نبوته ويرسلوا معه بني إسرائيل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا يترتب هذا إلا بإيمان به‏.‏ وأما أن تكون رسالته إليهم لمعنى اتباعه والدخول في شرعه فليس هذا بظاهر القصة ولا كشف الغيب ذلك، ألا ترى أن موسى خرج عنهم ببني إسرائيل‏؟‏ فلو لم يتبع لمضى بأمته، وألا ترة أنه لم يدع القبط بجملتهم وإنما كان يحاور أولي الأمر‏؟‏ وأيضاً فليس دعاؤه لهم على حد دعاء نوح وهود وصالح أممهم في معنى كفرهم ومعاصيهم، بل في الاهتداء والتزكي وإرسال بني إسرائيل‏.‏

ومما يؤيد هذا أنه لو كانت دعوته لفرعون والقبط على حدود دعوته لبني إسرائيل فلم كان يطلب بأمر الله أن يرسل معه بني إسرائيل‏؟‏ بل كان يطلب أن يؤمن الجميع ويتشرعوا بشرعه ويستقر الأمر‏.‏ وأيضاً فلو كان مبعوثاً إلى القبط لرده الله إليهم حين غرق فرعون وجنوده، ولكن لم يكونوا أمة له فلم يرد إليهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واحتج من ذهب إلى أن موسى بعث إلى جميعهم بقوله تعالى في غير آية ‏{‏إلى فرعون وملئه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏، و‏{‏إلى فرعون وقومه‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 12‏]‏ والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وذكرهم‏}‏ الآية‏.‏ أمر الله عز وجل موسى أن يعظ قومه بالتهديد بنقم الله التي أحلها بالأمم الكافرة قبلهم وبالتعديد لنعمه عليهم في المواطن المتقدمة، وعلى غيرهم من أهل طاعته ليكون جريهم على منهاج الذين أنعم عليهم وهربهم من طريق الذين حلت بهم النقمات، وعبر عن النعم والنقم ب «الأيام» إذ هي في أيام، وفي هذه العبارة تعظيم هذه الكوائن المذكور بها، ومن هذا المعنى قولهم‏:‏ يوم عصيب، ويوم عبوس، ويوم بسام، وإنما الحقيقة وصف ما وقع فيه من شدة أو سرور‏.‏ وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت‏:‏ ‏{‏أيام الله‏}‏‏:‏ نعمه‏:‏ وعن فرقة أنها قالت‏:‏ ‏{‏أيام الله‏}‏‏:‏ نقمه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولفظة «الأيام» تعم المعنيين، لأن التذكير يقع بالوجهين جميعاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لكل صبار شكور‏}‏ إنما أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه، فأخذ من صفات المؤمن صفتين تجمع أكثر الخصال وتعم أجمل الأفعال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

هذا من التذكير بأيام الله في النعم، وكان يوم الإنجاء عظيماً لعظم الكائن فيه، وقد تقدم تفسير هذه الآية وقصصها بما يغني عن إعادته، غير أن في هذه الآية زيادة الواو في قوله‏:‏ ‏{‏ويذبحون‏}‏ وفي البقرة‏:‏ ‏{‏يذبحون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 49‏]‏- بغير واو عطف‏.‏ فهناك فسر سوء العذاب بأنه التذبيح والاستحياء، وهنا دل بسوء العذاب على أنواع غير التذبيح والاستحياء، وعطف التذبيح والاستحياء عليها‏.‏

وقرأ ابن محيصن‏:‏ «ويَذبَحون» بفتح الياء والباء مخففة‏.‏

و ‏{‏بلاء‏}‏ في هذه الآية يحتمل أن يريد به المحنة، ويحتمل أن يريد به الاختبار، والمعنى متقارب‏.‏

و ‏{‏تأذن‏}‏ بمعنى آذن‏.‏ أي أعلم، وهو مثل‏:‏ أكرم وتكرم، وأوعد وتوعد، وهذا الإعلام منه مقترن بإنفاذ وقضاء قد سبقه، وما في تفعل هذه من المحاولة والشروع إذا أسندت إلى البشر منفي في جهة الله تعالى، وأما قول العرب‏:‏ تعلم بمعنى أعلم، فمرفوض‏.‏ الماضي على ما ذكر يعقوب‏.‏ كقول الشاعر‏:‏

تعلم أبيت اللعن‏.‏‏.‏‏.‏ *** ونحوه‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ الزيادة على الشكر ليست في الدنيا وإنما هي من نعم الآخرة، والدنيا أهون من ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وصحيح جائز أن يكون ذلك، وأن يزيد الله أيضاً المؤمن على شكره من نعم الدنيا وأن يزيده أيضاً منهما جميعاً، وفي هذه الآية ترجية وتخويف، ومما يقضي بأن الشكر متضمن الإيمان أنه عادله بالكفر، وقد يحتمل أن يكون الكفر كفر النعم لا كفر الجحد، وحكى الطبري عن سفيان وعن الحسن أنهما قالا‏:‏ معنى الآية‏:‏ ‏{‏لئن شكرتم لأزيدنكم‏}‏ من طاعتي وضعفه الطبري، وليس كما قال‏:‏ بل هو قوي حسن، فتأمله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لئن شكرتم‏}‏ هو جواب قسم يتضمنه الكلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وقال موسى‏}‏ الآية، في هذه الآية تحقير للمخاطبين- بشرط كفرهم- وتوبيخ، وذلك بين من الصفتين اللتين وصف بهما نفسه تعالى في آخر الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏لغني‏}‏ يتضمن تحقيرهم وعظمته، إذ له الكمال التام على الإطلاق، وقوله‏:‏ ‏{‏حميد‏}‏ يتضمن توبيخهم، وذلك أنه صفة يستوجب المحامد كلها، دائم كذلك في ذاته لم يزل ولا يزال، فكفركم أنتم بإله هذه حاله غاية التخلف والخذلان، وفي قوله أيضاً‏:‏ ‏{‏حميد‏}‏ ما يتضمن أنه ذو آلاء عليكم أيها الكافرون به كان يستوجب بها حمدكم، فكفركم به مع ذلك أذهب في الضلال، وهذا توبيخ بين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم‏}‏ الآية، هذا من التذكير بأيام الله في النقم من الأمم الكافرة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يعلمهم إلا الله‏}‏ من نحو قوله‏:‏ ‏{‏وقروناً بين ذلك كثيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 38‏]‏، وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كذب النسابون من فوق عدنان»، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «كان بين زمن موسى وبين زمن نوح قرون ثلاثون لا يعلمهم إلا الله»‏.‏

وحكى عنه المهدوي أنه قال‏:‏ «كان بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الوقوف على عدتهم بعيد، ونفي العلم بها جملة أصح، وهو ظاهر القرآن‏.‏

واختلف المفسرون في معنى قوله‏:‏ ‏{‏فردوا أيديهم في أفواههم‏}‏ بحسب احتمال اللفظ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ و«الأيدي» في هذه الآية قد تتأول بمعنى الجوارح، وقد تتأول بمعنى أيدي النعم، فمما ذكر على أن «الأيدي» الجوارح أن يكون المعنى‏:‏ ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم عضاً عليها من الغيظ على الرسل، ومبالغة في التكذيب- هذا قول ابن مسعود وابن زيد، وقال ابن عباس‏:‏ عجبوا وفعلوا ذلك، والعض من الغيظ مشهور من البشر، وفي كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏عضوا عليكم الأنامل من الغيظ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏ وقال الشاعر‏:‏

قد أفنى أنامله أزمه *** فأضحى يعضُّ عليَّ الوظيفا

وقال الآخر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

لو أن سملى أبصرت تخددي *** ودقة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عوَّدي *** عضت من الوجد بأطراف اليد

ومما ذكر أن يكون المعنى أنهم ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت، واستبشاعاً لما قالوا من دعوى النبوءة ومما ذكر أن يكون المعنى ردوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتاً لهم ودفعاً في صدر قولهم- قاله الحسن- وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتحتمل الألفاظ معنى رابعاً وهو أن يتجوز في لفظ «الأيدي»، أي إنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوه بأفواههم من التكذيب، فكأن المعنى‏:‏ ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي في أقوالهم، وعبر عن جميع المدافعة ب «الأيدي»، إذ الأيدي موضع لشد المدافعة والمرادة‏.‏

وحكى المهدوي قولاً ضعيفاً وهو أن المعنى‏:‏ أخذوا أيدي الرسل فجعلوها في أفواه الرسل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا عندي لا وجه له‏.‏

ومما ذكر على أن «الأيدي» أيدي النعم ما ذكره الزجاج وذلك أنهم ردوا آلاء الرسل في الإنذار والتبليغ بأفواههم، أي بأقوالهم- فوصل الفعل ب ‏{‏في‏}‏ عوض وصوله بالباء- وروي نحوه عن مجاهد وقتادة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمشهور‏:‏ جمع يد النعمة‏:‏ أياد، ولا يجمع على أيد، إلا أن جمعه على أبد، لا يكسر باباً ولا ينقض أصلاً، وبحسبنا أن الزجاج قدره وتأول عليه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل اللفظ- على هذا- معنى ثانياً، أن يكون المقصد‏:‏ ردوا أنعام الرسل في أفواه الرسل، أي لم يقبلوه، كما تقول لمن لا يعجبك قوله‏:‏ أمسك يا فلان كلامك في فمك‏.‏ ومن حيث كانت أيدي الرسل أقوالاً ساغ هذا فيها، كما تقول‏:‏ كسرت كلام فلان في فمه، أي رددته عليه وقطعته بقلة القبول والرد، وحكى المهدوي عن مجاهد أنه قال‏:‏ معناه‏:‏ ردوا نعم الرسل في أفواه أنفسهم بالتكذيب والنجه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لفي شك مما تدعوننا إليه مريب‏}‏ يقتضي أنهم شكوا في صدق نبوتهم وأقوالهم أو كذبها، وتوقفوا في إمضاء أحد المعتقدين، ثم ارتابوا بالمعتقد الواحد في صدق نبوتهم فجاءهم شك مؤكد بارتياب‏.‏

وقرأ طلحة بن مصرف‏:‏ «مما تدعونّا» بنون واحدة مشددة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أفي الله‏}‏ مقدر فيه ضمير تقديره عند كثير من النحويين أفي إلوهية الله شك‏؟‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ تقديره‏:‏ أفي وحدانية الله شك‏؟‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وزعم بعض الناس‏:‏ أن أبا علي إنما فزع إلى هذه العبارة حفظاً للاعتزال وزوالاً عما تحتمله لفظة الألوهية من الصفات بحسب عمومها، ولفظة الوحدانية مخلصة من هذا الاحتمال‏.‏

و «الفاطر» المخترع المبتدي، وسوق هذه الصفة احتجاج على الشاكين يبين التوبيخ، أي أيشك فيمن هذه صفته‏؟‏ فساق الصفة التي هي منصوبة لرفع الشك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من ذنوبكم‏}‏ ذهب بعض النحاة إلى أنها زائدة، وسيبويه يأبى أن تكون زائدة ويراها للتبعيض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهو معنى صحيح، وذلك أن الوعد وقع بغفران الشرك وما معه من المعاصي، وبقي ما يستأنفه أحدهم بعد إيمانه من المعاصي مسكوتاً ليبقى معه في مشيئة الله تعالى، فالغفران إنما نفذ به الوعد في البعض، فصح معنى ‏{‏من‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويؤخركم إلى أجل مسمى‏}‏ قد تقدم القول فيه في سورة الأعراف، في قوله‏:‏ ‏{‏ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏ وجلبت هذه هناك بسبب ما يظهر بين الآيتين من التعارض‏.‏ ويليق هنا أن نذكر مسألة المقتول‏:‏ هل قطع أجله أم ذلك هو أجله المحتوم عليه‏؟‏‏.‏

فالأول هو قول المعتزلة، والثاني قول أهل السنة‏.‏

فتقول المعتزلة‏:‏ لو لم يقتله لعاش، وهذا سبب القود‏.‏

وقالت فرقة من أهل السنة، لو لم يقتله لمات حتف أنفه‏.‏

قال أبو المعالي‏:‏ وهذا كله تخبط، وإنما هو أجله الذي سبق في القضاء أنه يموت فيه على تلك الصفة، فمحال أن يقع غير ذلك، فإن فرضنا أنه لو لم يقتله وفرضنا مع ذلك أن علم الله سبق بأنه لا يقتله، بقي أمره في حيز الجواز في أن يعيش أو يقتل، وكيفما كان علم الله تعالى يسبق فيه‏.‏

وقول الكفرة ‏{‏إن أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ فيه استبعاد بعثة البشر، وقال بعض الناس‏:‏ بل أرادوا إحالته، وذهبوا مذهب البراهمة أو من يقول من الفلاسفة‏:‏ إن الأجناس لا يقع فيها هذا التباين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم الإتيان بآية، و‏{‏سلطان مبين‏}‏، ولو كانت بعثتهم عندهم محالاً لما طلبوا منهم حجة، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز، أي بعثتكم محال وإلا ‏{‏فأتونا بسلطان مبين‏}‏، أي إنكم لا تفعلون ذلك أبداً، فيتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ صدقتم في قولكم، أي بشر مثلكم في الأشخاص والخلقة لكن تبايننا بفضل الله ومنه الذي يختص به من يشاء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ففارقوهم في المعنى بخلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأنهم حمر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 50‏]‏ فإن ذلك في المعنى لا في الهيئة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان‏}‏ هذه العبارة إذا قالها الإنسان عن نفسه أو قيلت له فيما يقع تحت مقدوره- فمعناها النهي والحظر، وإن كان ذلك فيما لا قدرة له عليه- فمعناها نفي ذلك الأمر جملة، وكذا هي آيتنا، وقال المهدوي لفظها لفظ الحظر ومعناها النفي‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليتوكل‏}‏ لام الأمر‏.‏ وقرأها الجمهور ساكنة وقرأها الحسن مكسورة، وتحريكها بالكسر هو أصلها‏.‏ وتسكينها طلب التخفيف، ولكثرة استعمالها وللفرق بينها وبين لام كي التي ألزمت الحركة إجماعاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ما لنا ألا نتوكل‏}‏ الآية، وقفتهم الرسل على جهة التوبيخ على تعليل في أن لا يتوكلوا على الله، وهو قد أنعم عليهم وهداهم طريق النجاة وفضلهم على خلقه، ثم أقسموا أن يقع منهم الصبر على الإذاية في ذات الله تعالى‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما آذيتمونا‏}‏ مصدرية، وهي حرف عند سيبويه بانفرادها، إلا أنها اسم مع ما اتصل بها من المصدر، وقال بعض النحويين‏:‏ «ما» المصدرية بانفرادها اسم‏.‏ ويحتمل أن تكون ‏{‏ما‏}‏- في هذا الموضع- بمعنى الذي، فيكون في ‏{‏آذيتمونا‏}‏ ضمير عائد، تقديره آذيتموناه، ولا يجوز أن تضمر به سبب إضمار حرف الجر، هذا مذهب سيبويه، والأخفش يجوز ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ‏(‏13‏)‏ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏15‏)‏ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أو لتعودن في ملتنا‏}‏ قالت فرقة‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ هنا بمعنى‏:‏ «إلا أن» كما هي في قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فقلت له لا تبك عيناك إنما *** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتحمل ‏{‏أو‏}‏ في هذه الآية أن تكون على بابها لوقوع أحد الأمرين، لأنهم حملوا رسلهم على أحد الوجهين، ولا يحتمل بيت امرئ القيس ذلك، لأنه لم يحاول أن يموت فيعذر، فتخلصت بمعنى إلا أن، ولذلك نصب الفعل بعدها‏.‏ وقالت فرقة هي بمعنى «حتى» في الآية، وهذا ضعيف، وإنما تترتب كذلك في قوله‏:‏ لألزمنك أو تقضيني حقي، وفي قوله‏:‏ لا يقوم زيد أو يقوم عمرو، وفي هذه المثل كلها يحسن تقدير إلا أن‏.‏

و «العودة» أبداً إنما هي إلى حالة قد كانت، والرسل ما كانوا قط في ملة الكفر، فإنما المعنى‏:‏ لتعودن في سكوتكم عنا وكونكم أغفالاً، وذلك عند الكفار كون في ملتهم‏.‏

وخصص تعالى ‏{‏الظالمين‏}‏ من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذي قالوا المقالة ناس، فإنما توعد بالإهلاك من خلص للظلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لنسكننكم‏}‏ الخطاب للحاضرين، والمراد هم وذريتهم، ويترتب هذا المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏ويؤخركم إلى أجل مسمى‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 10‏]‏ أي يؤخركم وأعقابكم‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏:‏ «ليهلكن» و«ليسكننكم» بالياء فيهما‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مقامي‏}‏ يحتمل أن يريد به المصدر من القيام على الشيء بالقدرة، ويحتمل أن يريد به الظرف لقيام العبد بين يديه في الآخرة، فإضافته- إذا كان مصدراً- إضافة المصدر إلى الفاعل، وإضافته- إذا كان ظرفاً- إضافة الظرف إلى حاضره، أي مقام حسابي، فجائز قوله‏:‏ ‏{‏مقامي‏}‏ وجائز لو قال‏:‏ مقامه، وجائز لو قال‏:‏ مقام العرض والجزاء، وهذا كما تقول‏:‏ دار الحاكم ودار الحكم ودار المحكوم عليهم‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏مقامي‏}‏ مجازه، حيث أقيمه بين يدي للحساب، و«الاستفتاح» طلب الحكم، والفتاح‏:‏ الحاكم، والمعنى‏:‏ أن الرسل استفتحوا، أي سألوا الله تعالى إنفاذ الحكم بنصرهم وتعذيب الكفرة، ويل‏:‏ بل استفتح الكفار، على نحو قول قريش ‏{‏عجل لنا قطنا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏ وعلى نحو قول أبي جهل في بدر اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة‏.‏ هذا قول أبي زيد‏.‏

وقرأت فرقة «واستفتِحوا» بكسر التاء، على معنى الأمر للرسل، قرأها ابن عباس ومجاهد وابن محيصن‏.‏

و ‏{‏خاب‏}‏ معناه‏:‏ خسر ولم ينجح، و«الجبار»‏:‏ المتعظم في نفسه، الذي لا يرى لأحد عليه حقاً، وقيل‏:‏ معناه الذي يجبر الناس على ما يكرهون‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا هو المفهوم من اللفظ، وعبر قتادة وغيره عن «الجبار» بأنه الذي يأبى أن يقول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

و «العنيد» الذي يعاند ولا ينقاد، وقوله‏:‏ ‏{‏من ورائه‏}‏ ذكر الطبري وغيره من المفسرين‏:‏ أن معناه‏:‏ من أمامه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى ‏{‏وكان وراءهم ملك‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ وأنشد الطبري‏:‏

أتوعدني وراء بني رياح *** كذبت لتقصرن يداك دوني

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وليس الأمر كما ذكر، و«الوراء» هنا على بابه، أي هو ما يأتي بعد في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحوادث بالأمام والوراء إنما هو بالزمان، وما تقدم فهو أمام وهو بين اليد، كما تقول في التوراة والإنجيل إنها بين يدي القرآن، والقرآن وراءهما على هذا، وما تأخر في الزمان فهو وراء المتقدم، ومنه قولهم لولد الولد، الوراء، وهذا الجبار العنيد وجوده وكفره وأعماله في وقت ما، ثم بعد ذلك في الزمان يأتيه أمر جهنم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتلخيص هذا أن يشبه الزمان بطريق تأتي الحوادث من جهته الواحدة متتابعة، فما تقدم فهو أمام، وما تأخر وراء المتقدم، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكان وراءهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ أي غصبه وتغلبه يأتي بعد حذرهم وتحفظهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويسقى من ماء‏}‏ وليس بماء لكن لما كان بدل الماء في العرف عندنا عد ماء، ثم نعته ب ‏{‏صديد‏}‏ كما تقول‏:‏ هذا خاتم حديد، و«الصديد» القيح والدم، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار، قاله مجاهد والضحاك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يتجرعه ولا يكاد يسيغه‏}‏ عبارة عن صعوبة أمره عليهم، وروي أن الكافر يؤتى بالبشربة من شراب أهل النار فيتكرهها، فإذا أدنيت منه شوت وجهه وسقطت فيها فروة رأسه فإذا شربها قطعت أمعاءه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويأتيه الموت من كل مكان‏}‏، أي من كل شعرة في بدنه، قاله إبراهيم التيمي، وقيل من جميع جهاته الست، وقوله‏:‏ ‏{‏وما هو بميت‏}‏ أي لا يراح بالموت، وباقي الآية كأولها، ووصف «العذاب بالغليظ» مبالغة فيه، وقال الفضيل بن عياض‏:‏ العذاب الغليظ حبس الأنفاس في الأجساد وقيل‏:‏ إن الضمير في ‏{‏ورائه‏}‏ هنا هو للعذاب المتقدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏18‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏19‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

اختلف في الشيء الذي ارتفع به قوله‏:‏ ‏{‏مثل‏}‏، فمذهب سيبويه رحمه الله أن التقدير‏:‏ فيما يتلى عليكم أو يقص‏:‏ ‏{‏مثل الذين كفروا‏}‏‏.‏ ومذهب الكسائي والفراء‏:‏ أنه ابتداء خبره ‏{‏كرماد‏}‏ والتقدير عندهم‏:‏ مثل أعمال الذين كفروا كرماد، وقد حكي عن الفراء‏:‏ أنه يرى إلغاء ‏{‏مثل‏}‏ وأن المعنى‏:‏ الذين كفروا أعمالهم كرماد، وقيل‏:‏ هو ابتداء و‏{‏أعمالهم‏}‏ ابتداء ثان، و‏{‏كرماد‏}‏ خبر الثاني، والجملة خبر الأول، وهذا عندي أرجح الأقوال وكأنك قلت‏:‏ المتحصل مثالاً في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة، وهي‏:‏ ‏{‏أعمالهم كرماد‏}‏‏.‏ وهذا يطرد عندي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الجنة‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35، محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وشبهت أعمال الكفرة ومساعيهم في فسادها وقت الحاجة وتلاشيها بالرماد الذي تذروه الريح، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى أثر، ولا يجتمع منه شيء، ووصف «اليوم» ب «العصوف»- وهي من صفة الريح بالحقيقة- لما كانت في اليوم، ومن هذا المعنى قول الشاعر ‏[‏جرير‏]‏‏:‏

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى *** ونمت وما ليل المطي بنائم

ومنه قول الآخر‏:‏

يومين غيمين ويوماً شمساً *** فأعمال الكفرة لتلاشيها لا يقدرون منها على شيء‏.‏

وقرأ نافع وحده وأبو جعفر «الرياح» والباقون «الريح» بالإفراد وقد تقدم هذا ومعناه مستوفى بحمد الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى كونهم بهذه الحال، وعلى مثل هذا الغرور، و‏{‏الضلال البعيد‏}‏ الذي قد تعمق فيه صاحبه وأبعد عن لاحب النجاة‏.‏

وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر «في يوم عاصف» بإضافة يوم إلى عاصف، وهذا بين، وقرأ السلمي‏:‏ «ألم تر» بسكون الراء، بمعنى ألم تعلم من رؤية القلب‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر‏:‏ «خلق السماوات» وقرأ حمزة والكسائي «خالق السماوات» فوجه الأولى‏:‏ أنه فعل قد مضى، فذكر كذلك، ووجه الثانية‏:‏ أنه ك ‏{‏فاطر السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14 يوسف‏:‏ 101 إبراهيم‏:‏ 10 الزمر‏:‏ 46 الشورى‏:‏ 11‏]‏ و‏{‏فالق الإصباح‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ أي بما يحق في جوده، ومن جهة مصالح عباده، وإنفاذ سابق قضائه، ولتدل عليه وعلى قدرته‏.‏ ثم توعد تبارك وتعالى بقوله‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ أي يعدمكم ويطمس آثاركم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بخلق جديد‏}‏ يصح أن يريد‏:‏ من فرق بني آدم، ويصح غير ذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏وما ذلك على الله بعزيز‏}‏ أي بممتنع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏برزوا‏}‏ معناه، صاروا بالبراز، وهي الأرض المتسعة كالبراح والقواء والخبار فاستعير ذلك لجمع يوم القيامة‏.‏

وقولهم ‏{‏تبعاً‏}‏ يحتمل أن يكون مصدراً، فيكون على نحو قولهم‏:‏ قول عدل، وقوم حرب، ويحتمل أن يكون جمع تابع، على غائب وغيب، وهو تأويل الطبري‏.‏

وفسر الناس ‏{‏الضعفاء‏}‏ بالأتباع، و«المستكبرين» بالقادة وأهل الرأي، وقولهم ‏{‏مغنون‏}‏ من الغناء، وهي المنفعة التي تكون من الإنسان للآخر في الدفاع وغيره، وقوله‏:‏ ‏{‏أجزعنا‏}‏ ألف التسوية، وليست بألف استفهام، بل هي كقوله‏:‏ ‏{‏آنذرتهم أم لم تنذرهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ و«المحيص» المفر والملجأ، مأخوذ من حاص يحيص إذا نفر وفر ومنه في حديث هرقل‏:‏ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، وروي عن ابن زيد وعن محمد بن كعب‏:‏ أن أهل النار يقولون‏:‏ إنما نال أهل الجنة الرحمة بالصبر على طاعة الله، فتعال فلنصبر، فيصبرون خمسمائة سنة، فلا ينتفعون، فيقولون هلم فنجزع، فيضجون ويصيحون ويبكون خمسمائة سنة أخرى، فلا ينتفعون، فحينئذ يقولون هذا القول الذي في الآية، وظاهر الآية أنهم إنما يقولونها في موقف العرض وقت البروز بين يدي الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏22‏)‏ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

المراد هنا ب ‏{‏الشيطان‏}‏ إبليس الأفذم نفسه، وروي في حديث عن النبي عليه السلام- من طريق عقبة بن عامر- أنه قال‏:‏ «يقوم يوم القيامة خطيبان‏:‏ أحدهما إبليس يقوم في الكفرة بهذه الألفاظ، والآخر عيسى ابن مريم يقوم بقوله‏:‏ ‏{‏ما قلت لهم إلا ما أمرتني به‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117 ‏[‏، وقال بعض العلماء‏:‏ يقوم إِبليس خطيب السوء، الصادق بهذه الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فعلى هذه الرواية يكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏قضي الأمر‏}‏ أي حصل أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة، وهو تأويل الطبري‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ و‏{‏قضي‏}‏ قد يعبر عنها في الأمور عن فعل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضي الأمر واستوت على الجودي‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 44‏]‏ وقد يعبر بها عن عزم على أن يفعل، كقوله‏:‏ ‏{‏قضي الأمر الذي فيه تستفتيان‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 41‏]‏‏.‏

و ‏{‏الوعد‏}‏ في هذه الآية على بابه في الخير، أي إن الله وعدهم النعيم إن آمنوا، ووعدهم إبليس الظفر والأمر إن كذبوا، ومعلوم اقتران وعد الله بوعيده، واتفق أن لم يتبعوا طلب وعد الله فوقعوا في وعيده، وجاء من ذلك كأن إبليس أخلفهم‏.‏ وال ‏{‏سلطان‏}‏ الحجة البينة، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن دعوتكم‏}‏ استثناء منقطع، و‏{‏أن‏}‏ في موضع نصب، ويصح أن تكون في موضع رفع على معنى‏:‏ إلا أن النائب عن السلطان، إن دعوتكم فيكون هذا في المعنى كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏فاستجبتم لي‏}‏ أي رأيتم ما دعوتكم إليه ببصيرتكم واعتقدتموه الرأي وأتى نظركم عليه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذكر بعض الناس أن هذا المكان يبطل منه التقليد، وفي هذه المقالة ضعف على احتمالها، والتقليد وإن كان باطلاً ففساده من غير هذا الموضع‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يريد ب» السلطان «في هذه الآية الغلبة والقدرة والملك، أي ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة مني، بل عرضت عليكم شيئاً، فأتى رأيكم عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تلوموني‏}‏ يريد بزعمه إذ لا ذنب لي ‏{‏ولوموا أنفسكم‏}‏ في سوء نظركم وقلة تثبتكم فإنكم إنما أتيتم اتباعي عن بصيرة منكم وتكسب‏.‏ و» المصرخ «المغيث، والصارخ‏:‏ المستغيث‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** كان الصراخ له قطع الظنابيب

فيقال‏:‏ صرخ الرجل، وأصرخ غيره، وأما الصريخ فهو مصدر بمنزلة البريح، ويوصف به، كما يقال‏:‏ رجل عدل ونحوه‏.‏

وقرأ حمزة والأعمش وابن وثاب» بمصرخي «بكسر الياء تشبيهاً لياء الإضمار بهاء الإضمار في قوله‏:‏ مصرخيه، ورد الزجاج هذه القراءة، وقال ردية مرذولة، وقال فيها القاسم بن معن‏:‏ إنها صواب، ووجهها أبو علي وحكى أبو حاتم‏:‏ أن أبا عمرو حسنها، وأنكر أبو حاتم على أبي عمرو‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بما أشركتمون‏}‏ أي مع الله تعالى في الطاعة لي التي ينبغي أن يفرد الله بها، ف «ما» مصدرية، وكأنه يقول‏:‏ إني الآن كافر بإشراككم أيأي مع الله قبل هذا الوقت‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا تبر منه، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة يكفرون بشرككم‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 14‏]‏ ويحتمل أن يكون اللفظ إقراراً على نفسه بكفره الأقدم، فتكون «ما» بمعنى الذي، يريد الله تعالى، أي خطيئتي قبل خطيئتكم، فلا إصراخ عندي، وباقي الآية بين‏.‏

وقرأ الجمهور «وأُدخلَ» على بناء الفعل للمفعول، وقرأ الحسن‏:‏ «وأُدخِلُ» على فعل المتكلم، أي يقولها الله عز وجل، وقوله‏:‏ ‏{‏من تحتها‏}‏ أي من تحت ما علا منها، كالغرف والمباني والأشجار وغيره‏.‏ و«الخلود» في هذه الآية على بابه في الدوام، و«الإذن» هنا عبارة عن القضاء والإمضاء، وقوله‏:‏ ‏{‏تحيتهم‏}‏ مصدر مضاف إلى الضمير، فجائز أن يكون الضمير للمفعول أي تحييهم الملائكة، وجائز أن يكون الضمير للفاعل، أي يحيي بعضهم بعضاً‏.‏

و ‏{‏تحيتهم‏}‏ رفع بالابتداء، و‏{‏سلام‏}‏ ابتداء ثان، وخبره محذوف تقديره عليكم، والجملة خبر الأول، والجميع في موضع الحال من المضمرين في ‏{‏خالدين‏}‏ أو يكون صفة ل ‏{‏جنات‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏24‏)‏ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏25‏)‏ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ بمعنى ألم تعلم، و‏{‏مثلاً‏}‏ مفعول بضرب، و‏{‏كلمة‏}‏ مفعول أول بها، و‏{‏ضرب‏}‏ هذه تتعدى إلى مفعولين، لأنها بمنزلة جعل ونحوه إذ معناها‏:‏ جعل ضربها‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ ‏{‏مثلاً‏}‏ مفعول، و‏{‏كلمة‏}‏ بدل منه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا على أنها تتعدى إلى مفعول واحد، وإنما أوهم في هذا قلة التحرير في ‏{‏ضرب‏}‏ هذه‏.‏

والكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كشجرة‏}‏ في موضع الحال، أي مشبهة شجرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ «الكلمة الطيبة» هي لا إله إلا الله، مثلها الله ب «الشجرة الطيبة»، وهي النخلة في قول أكثر المتأولين، فكأن هذه الكلمة ‏{‏أصلها ثابت‏}‏ في قلوب المؤمنين، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والحسنة وما يتحصل من عفو الله ورحمته- هو فرعها يصعد إلى السماء من قبل العبد، ويتنزل بها من قبل الله تعالى‏.‏

وقرأ أنس بن مالك «ثابت أصلها» وقالت فرقة‏:‏ إنما مثل الله ب «الشجرة الطيبة» المؤمن نفسه، إذ «الكلمة الطيبة» لا تقع إلا منه، فكأن الكلام كلمة طيبة وقائلها‏.‏ وكأن المؤمن ثابت في الأرض وأفعاله وأقواله صاعدة، فهو كشجرة فرعها في السماء، وما يكون أبداً من المؤمن من الطاعة، أو عن الكلمة من الفضل والأجر والغفران هو بمثابة الأكل الذي تأتي به كل حين‏.‏

وقوله عن الشجرة ‏{‏وفرعها في السماء‏}‏ أي في الهواء نحو السماء، والعرب تقول عن المستطيل نحو الهواء، وفي الحديث‏:‏ «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً»، وفي كتاب سيبويه‏:‏ والقيدودة‏:‏ الطويل في غير سماء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كأنه انقاد وامتد‏.‏

وقال أنس بن مالك وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد‏:‏ «الشجرة الطيبة» في هذه الآية هي النخلة، وروي ذلك في أحاديث وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ هي شجرة في الجنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن تكون شجرة غير معينة إلا أنها كل ما اتصف بهذه الصفات فيدخل في ذلك النخلة وغيرها‏.‏ وقد شبه الرسول عليه السلام المؤمن الذي يقرا القرآن بالأترجة، فلا يتعذر أيضاً أن يشبه بشجرتها‏.‏

و «الأكل» الثمر وقرأ عاصم وحده «أكُلها» بضم الكاف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كل حين‏}‏‏:‏ «الحين» في اللغة- القطيع من الزمن غير محدد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل أتى على الإنسان حين‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 1‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏ولتعلمن نبأه بعد حين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 88‏]‏‏.‏ وقد تقتضي لفظة الحين بقرينتها تحديداً، كهذه الآية، فإن ابن عباس وعكرمة ومجاهداً والحكم وحماداً وجماعة من الفقهاء قالوا‏:‏ من حلف ألا يفعل شيئاً حيناً فإنه لا يفعله سنة، واستشهدوا بهذه الآية ‏{‏تؤتي أكلها كل حين‏}‏ أي كل سنة، وقال ابن عباس وعكرمة والحسن‏:‏ أي كل ستة أشهر، وقال ابن المسيب‏:‏ الحين شهران لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك والربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏كل حين‏}‏ أي غدوة وعشية ومتى أريد جناها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهكذا يشبهها المؤمن الذي هو في جميع أيامه في عمل، أو الكلمة التي أجرها والصادر عنها من الأعمال مستمر، فيشبه أن قول الله تعالى إنما شبه المؤمن أو الكلمة بالشجرة في حال إثمارها إذ تلك أفضل أحوالها‏.‏ وتأول الطبري في ذلك أن أكل الطلح في الشتاء، وإن أكل الثمر في كل وقت من أوقات العام، وهو إتيان أكل، وإن فارق النخل، وإن فرضنا التشبيه بها على الإطلاق‏.‏ وهي إنما تؤتي في وقت دون وقت، فالمعنى كشجرة لا تخل بما جعلت له من الإتيان بالأكل في الأوقات المعلومة، فكذلك هذا المؤمن لا يخل بما يسر له من الأعمال الصالحة أو الكلمة التي لا تغب بركتها والأعمال الصادرة عنها بل هي في حفظ النظام كالشجرة الطيبة في حفظ وقتها المعلوم‏.‏ وباقي الآية بين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومن قال‏:‏ «الحين» سنة- راعى أن ثمر النخلة وجناها إنما يأتي كل سنة، ومن قال ستة أشهر- راعى من وقت جذاذ النخل إلى حملها من الوقت المقبل‏.‏ وقيل إن التشبيه وقع بالنخل الذي يثمر مرتين في العام، ومن قال شهرين‏.‏ قال‏:‏ هي مدة الجني في النخل‏.‏ وكلهم أفتى بقوله في الإيمان على الحين‏.‏

وحكي الكسائي والفراء‏:‏ أن في قراءة أبي بن كعب «وضرب الله مثلاً كلمة خبيثة»، و«الكلمة الخبيثة» هي كلمة الكفر وما قاربها من كلام السوء في الظلم ونحوه‏.‏ و‏{‏الشجرة الخبيثة‏}‏ قال أكثر المفسرين هي شجرة الحنظل-قاله أنس بن مالك ورواه عن النبي عليه السلام، وهذا عندي على جهة المثال‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هي الثوم، وقال الزجاج‏:‏ قيل هي الكشوت‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى هذه الأقوال من الاعتراض‏:‏ أن هذه كلها من النجم وليست من الشجر، والله تعالى إنما مثل بالشجرة فلا تسمى هذه إلا بتجوز، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثوم والبصل‏:‏ من أكل من هذه الشجرة، وأيضاً فإن هذه كلها ضعيفة وإن لم تجتث، اللهم إلا أن تقول‏:‏ اجتثت بالخلقة‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ هذا مثل ضربه الله ولم يخلق هذه الشجرة على وجه الأرض‏.‏

والظاهر عندي أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة إذا وجدت فيها هذه الأوصاف‏.‏ فالخبث هو أن تكون كالعضاة، أو كشجر السموم أو نحوها‏.‏ إذا اجتثت- أي اقتلعت، حيث جثتها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهاء والضعف- لتقلبها أقل ريح‏.‏ فالكافر يرى أن بيده شيئاً وهو لا يستقر ولا يغني عنه، كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد أو للجهل بها أنها شيء نافع وهي خبيثة الجني غير باقية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ‏(‏27‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ‏(‏28‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏29‏)‏ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏القول الثابت في الحياة الدنيا‏}‏، كلمة الإخلاص والنجاة من النار‏:‏ لا إله إلا الله، والإقرار بالنبوة‏.‏

وهذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، وقال طاوس وقتادة وجمهور العلماء‏:‏ ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ هي مدة حياة الإنسان‏.‏ ‏{‏وفي الآخرة‏}‏ هي وقت سؤاله في قبره‏.‏ وقال البراء بن عازب وجماعة ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ هي وقت سؤاله في قبره-ورواه البراء عن النبي عليه السلام في لفظ متأول‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ووجه القول لأن ذلك في مدة وجود الدنيا‏.‏

وقوله ‏{‏في الآخرة‏}‏ هو يوم القيامة عند العرض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والأول أحسن، ورجحه الطبري‏.‏

و ‏{‏الظالمين‏}‏ في هذه الآية، الكافرين، بدليل أنه عادل بهم المؤمنين، وعادل التثبيت بالإضلال، وقوله‏:‏ ‏{‏ويفعل الله ما يشاء‏}‏ تقرير لهذا التقسيم المتقدم، كأن امرأً رأى التقسيم فطلب في نفسه علته، فقيل له‏:‏ ‏{‏ويفعل الله ما يشاء‏}‏ بحق الملك‏.‏

وفي هذه الآية رد على القدرية‏.‏

وذكر الطبري في صفة مساءلة العبد في قبره أحاديث، منها ما وقع في الصحيح‏.‏ وهي من عقائد الدين، وأنكرت ذلك المعتزلة‏.‏ ولم تقل بأن العبد يسال في قبره، وجماعة السنة تقول‏:‏ إن الله يخلق له في قبره إدراكات وتحصيلاً، إما بحياة كالمتعارفة، وإما بحضور النفس وإن لم تتلبس بالجسد كالعرف، كل هذا جائز في قدرة الله تعالى، غير أن في الأحاديث‏:‏ «إنه يسمع خفق النعال»، ومنها‏:‏ «إنه يرى الضوء كأن الشمس دنت للغروب»، وفيها‏:‏ «إنه ليراجع»، وفيها‏:‏ «فيعاد روحه إلى جسده»، وهذا كله يتضمن الحياة- فسبحان رب هذه القدرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً‏}‏ الآية، هذا تنبيه على مثال من ظالمين أضلوا، والتقدير‏:‏ بدلوا شكر نعمة الله كفراً، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 82‏]‏‏.‏

و ‏{‏نعمة الله‏}‏ المشار إليها في هذه الآية هو محمد عليه السلام ودينه، أنعم الله به على قريش، فكفروا النعمة ولم يقبلوها، وتبدلوا بها الكفر‏.‏

والمراد ب ‏{‏الذين‏}‏ كفرة قريش جملة- هذا بحسب ما اشتهر من حالهم- وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب‏:‏ أنها نزلت في الأفجرين من قريش‏:‏ بني مخزوم وبني أمية‏.‏ قال عمر‏:‏ فأما بنو المغيرة فكفوا يوم بدر‏.‏ وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين، وقال ابن عباس‏:‏ هذه الآية في جبلة بن الأيهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولم يرد ابن عباس أنها فيه نزلت لأن نزول الآية قبل قصته، وإنما أراد أنها تحصر من فعل جبلة إلى يوم القيامة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأحلوا قومهم‏}‏ أي من أطاعهم، وكان معهم في التبديل، فكأن الإشارة والتعنيف إنما هي للرؤوس والأعلام، و‏{‏البوار‏}‏ الهلاك، ومنه قول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب‏.‏

يا رسول المليك إن لساني *** فاتقٌ ما رتَقْتَ إذ أنا بُور

قال الطبري‏:‏ وقال هو وغيره‏:‏ إنه يروى لابن الزبعرى، ويحتمل أن يريد ب ‏{‏البوار‏}‏‏:‏ الهلاك في الآخرة ففسره حينئذ بقوله‏:‏ ‏{‏جهنم يصلونها‏}‏، يحترقون في حرها ويحتملونه، ويحتمل أن يريد ب ‏{‏البوار‏}‏‏:‏ الهلاك في الدنيا بالقتل والخزي فتكون «الدار» قليب بدر ونحوه‏.‏ وقال عطاء‏:‏ نزلت هذه الآية في قتلى بدر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فيكون قوله‏:‏ ‏{‏جهنم‏}‏ نصباً، على حد قولك‏:‏ زيداً ضربته، بإضمار فعل يقتضيه الظاهر‏.‏

و ‏{‏القرار‏}‏‏:‏ موضع استقرار الإنسان، و‏{‏أنداداً‏}‏ جمع ند وهو المثيل والمشبه المناوئ والمراد الأصنام‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليضلوا‏}‏- بضم الياء- لام كي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليَضلوا» بفتح الياء- أي هم أنفسهم- فاللام- على هذا- لام عاقبة وصيرورة وقرأ الباقون «ليُضلوا»- بضم الياء- أي غيرهم‏.‏

وأمرهم بالتمتع هو وعيد وتهديد على حد قوله‏:‏ ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 34‏]‏

‏{‏قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ‏(‏31‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ‏(‏32‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‏(‏33‏)‏ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

«العباد» جمع عبد، وعرفه في التكرمة بخلاف العبيد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يقيموا‏}‏ قالت فرقة من النحويين‏:‏ جزمه بإضمار لام الأمر على حد قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

محمد تفد نفسك كل نفس *** أنشده سيبويه- إلا أنه قال‏:‏ إن هذا لا يجوز إلا في شعر‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ أبو علي وغيره- هو فعل مضارع بني لما كان في معنى فعل الأمر، لأن المراد‏:‏ أقيموا، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك‏:‏ يا زيد لما شبه بقبل وبعد، وقال سيبويه‏:‏ هو جواب شرط مقدر يتضمنه صدر الآية، تقديره‏:‏ إن تقل لهم أقيموا يقيموا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يكون جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏، وذلك أن يجعل ‏{‏قل‏}‏ في هذه الآية بمعنى‏:‏ بلغ وأد الشيعة يقيموا الصلاة، وهذا كله على أن المقول هو‏:‏ الأمر بالإقامة والإنفاق‏.‏ وقيل إن المقول هو‏:‏ الآية التي بعد، أعني قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي خلق السماوات‏}‏‏.‏

و «السر»‏:‏ صدقة التنقل، و«العلانية» المفروضة- وهذا هو مقتضى الأحاديث- وفسر ابن عباس هذه الآية بزكاة الأموال مجملاً، وكذلك فسر الصلاة بأنها الخمس- وهذا منه- عندي- تقريب للمخاطب‏.‏

و ‏{‏خلال‏}‏ مصدر من خلل‏:‏ إذا واد وصافى، ومنه الخلة والخليل وقال امرؤ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

صرفت الهوى عنهن من خشية الردى *** ولست بمقلي الخلال ولا قال

وقال الأخفش‏:‏ «الخلال» جمع خلة‏.‏

وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر‏:‏ «لا بيع ولا خلال» بالرفع على إلغاء «لا» وقرأ أبو عمرو والحسن وابن كثير‏:‏ «ولا بيعَ ولا خلالَ» بالنصب على التبرية، وقد تقدم هذا‏.‏ والمراد بهذا اليوم يوم القيامة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذي خلق السماوات‏}‏ الآية، تذكير بآلاء الله، وتنبيه على قدرته التي فيها إحسان إلى البشر لتقوم الحجة من جهتين‏.‏

و ‏{‏الله‏}‏ مبتدأ، و‏{‏الذي‏}‏ خبره‏.‏ ومن أخبر بهذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق‏.‏ و‏{‏السماوات‏}‏ هي الأرقعة السبعة والسماء في قوله، ‏{‏وأنزل من السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏ السحاب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من الثمرات‏}‏ يجوز أن تكون ‏{‏من‏}‏ للتبعيض، فيكون المراد بعض جني الأشجار، ويسقط ما كان منها سماً أو مجرداً للمضرات، ويجوز أن تكون ‏{‏من‏}‏ لبيان الجنس، كأنه قال‏:‏ فأخرج به رزقاً لكم من الثمرات، وقال بعض الناس‏:‏ ‏{‏من‏}‏ زائدة-وهذا لا يجوز عند سيبويه لكونها في الواجب ويجوز عند الأخفش‏.‏

و ‏{‏الفلك‏}‏ جمع فلك- وقد تقدم القول فيه مراراً- وقوله‏:‏ ‏{‏بأمره‏}‏ مصدر من أمر يأمر، وهذا راجع إلى الكلام القائم بالذات، كقول الله تعالى للبحار والأرض وسائر الأشياء، كن- عند الإيجاد- إنما معناه‏:‏ كن بحال كذا وعلى وتيرة كذا، وفي هذا يندرج جريان الفلك وغيره‏.‏

وفي «تسخير الفلك» ينطوي تسخير البحر وتسخير الرياح، وأما «تسخير الأنهار» فتفجرها في كل بلد، وانقيادها للسقي وسائر المنافع‏.‏ و‏{‏دائبين‏}‏ معناه‏:‏ متماديين ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الجمل الذي بكى وأجهش عليه‏:‏ «إن هذا الجمل شكى إلي أنك تجيعه وتديبه»، أي تديمه في الخدمة والعمل- وظاهر الآية أن معناه‏:‏ دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة‏.‏ وحكى الطبري عن مقاتل بن حيان يرفع إلى ابن عباس أنه قال‏:‏ معناه‏:‏ دائبين في طاعة الله- وهذا قول إن كان يراد به- أن الطاعة انقياد منهما في التسخير، فذلك موجود في قوله‏:‏ ‏{‏سخر‏}‏ وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر، فهذا جيد، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وآتاكم‏}‏ للجنس من البشر، أي إن الإنسان بجملته قد أوتي من كل ما شأنه أن يسأل وينتفع به، ولا يطرد هذا في واحد من الناس وإنما تفرقت هذه النعم في البشر، فيقال-بحسب هذا- للجميع أُوتيتم كذا- على جهة التعديد للنعمة- وقيل المعنى‏:‏ ‏{‏وآتاكم من كل ما سألتموه‏}‏ أن لو سألتموه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قريب من الأول‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما سألتموه‏}‏ يصح أن تكون مصدرية، ويكون الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏سألتموه‏}‏ عائداً على الله تعالى‏:‏ ويصح أن يكون ‏{‏ما‏}‏ بمعنى الذي، ويكون الضمير عائداً على الذي‏.‏

وقرأ الضحاك بن مزاحم «من كلٍّ ما سألتموه» بتنوين ‏{‏كل‏}‏ وهي قراءة الحسن وقتادة وسلام، ورويت عن نافع، المعنى‏:‏ وآتاكم من كل هذه المخلوقات المذكورات قبل‏.‏ ما من شأنه أن يسأل لمعنى الانتفاع به‏.‏ ف ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما سألتموه‏}‏ مفعول ثان ب ‏{‏آتاكم‏}‏ وقال بعض الناس‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ نافية على هذه القراءة أي أعطاكم من كل شيء لم يعرض له‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا تفسير الضحاك‏.‏ وأما القراءة الأولى بإضافة ‏{‏كل‏}‏ إلى ‏{‏ما‏}‏- فلا بد من تقدير المفعول الثاني جزءاً أو شيئاً ونحو هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ أي لكثرتها وعظمها في الحواس والقوى والإيجاد بعد العدم والهداية للإيمان وغير ذلك‏.‏ وقال طلق بن حبيب‏:‏ إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد‏.‏ ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين وقال أبو الدرداء‏:‏ من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن الإنسان‏}‏ يريد به النوع والجنس المعنى‏:‏ توجد فيه هذه الخلال وهي الظلم والكفر، فإن كانت هذه الخلال من جاحد فهي بصفة وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ‏(‏35‏)‏ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏36‏)‏ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ واذكر إذ قال إبراهيم، و‏{‏البلد‏}‏‏:‏ مكة، و‏{‏آمناً‏}‏ معناه فيه أمن، فوصفه بالأمن تجوزاً- كما قال‏:‏ ‏{‏في يوم عاصف‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 18‏]‏، وكما قال الشاعر‏:‏

وما ليل المطي بنائم *** ‏{‏واجنبني‏}‏ معناه‏:‏ وامنعني، يقال‏:‏ جنبه كذا وجنبه وأجنبه‏:‏ إذا منعه من الأمر وحماه منه‏.‏

وقرأ الجحدري والثقفي «وأجنِبني» بقطع الألف وكسر النون‏.‏

وأراد إبراهيم بني صلبه، وكذلك أجيبت دعوته فيهم، وأما باقي نسله فعبدوا الأصنام، وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ومن حصل في رتبته، فكيف يخاف أن يعبد صنماً‏؟‏‏!‏ لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في الخوف وطلب الخاتمة‏.‏

و ‏{‏الأصنام‏}‏ هي المنحوتة على خلقة البشر، وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهي أوثان، قاله الطبري عن مجاهد‏.‏

ونسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيراً من الناس- تجوز- إذ كانت عرضة الإضلال، والأسباب المنصوبة للغيّ، وعليها تنشأ الأغيار، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعه، وقيل‏:‏ أراد الأصنام هنا الدنانير والدراهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن عصاني‏}‏ ظاهره بالكفر، بمعادلة قوله‏:‏ ‏{‏فمن تبعني فإنه مني‏}‏، وإذا كان ذلك كذلك فقوله‏:‏ ‏{‏فإنك غفور رحيم‏}‏ معناه‏:‏ بتوبتك على الكفرة حتى يؤمنوا، لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب- صلى الله عليه وسلم- قال قتادة‏:‏ اسمعوا قول الخليل صلى الله عليه وسلم، والله ما كانوا طعانين ولا لعانين، وكذلك قال نبي الله عيسى ‏{‏وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 118‏]‏ وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ تلا هاتين الآيتين ثم دعا لأمته، فبشر فيهم وكان إبراهيم التيمي يقول‏:‏ من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام‏؟‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن ذريتي‏}‏ يريد‏:‏ إسماعيل عليه السلام، وذلك أن سارة لما غارت بهاجر- بعد أن ولدت إسماعيل- تعذب إبراهيم عليه السلام، بهما، فروي أنه ركب البراق وهو وهاجر والطفل- فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك، وركب منصرفاً من يومه ذلك، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى فلما ولَّى دعا بمضمن هذه الآية، وأما كيفية بقاء هاجر وما صنعت وسائر خبر إسماعيل، ففي كتاب البخاري والسير وغيره‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ومن ذريتي‏}‏ للتبعيض، لأن إسحاق كان بالشام، و«الوادي»‏:‏ ما بين الجبلين، وليس من شروطه أن يكون فيه ماء‏.‏

وهذه الآية تقتضي أن إبراهيم عليه السلام قد كان علم من الله تعالى أنه لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقهما الماء، وإنما نظر النظر البعيد للعاقبة فقال‏:‏ ‏{‏غير ذي زرع‏}‏، ولو لم يعلم ذلك من الله لقال‏:‏ غير ذي ماء على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عند بيتك المحرم‏}‏ إما أن يكون البيت قد كان قديماً- على ما روي قبل الطوفان، وكان علمه عند إبراهيم- وإما أن يكون قالها لما كان قد أعلمه الله تعالى أنه سيبني هنالك بيتاً لله تعالى، فيكون محرماً‏.‏ ومعنى ‏{‏المحرم‏}‏ على الجبابرة وأن تنتهك حرمته ويستخف بحقه- قاله قتادة وغيره‏.‏

وجمعه الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏ليقيموا‏}‏ يدل على أن الله قد أعلمه أن ذلك الطفل سيعقب هنالك ويكون له نسل‏.‏ واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليقيموا‏}‏ هي لام كي هذا هو الظاهر فيها- على أنها متعلقة ب ‏{‏أسكنت‏}‏، والنداء اعتراض، ويصح أن تكون لام أمر، كأن رغب إلى الله أن يوفقهم بإقامة الصلاة، ثم ساق عبارة ملزمة لهم إقامة الصلاة، وفي اللفظ على هذا التأويل بعض تجوز يربطه المعنى ويصلحه‏.‏

و ‏{‏أفئدة‏}‏‏:‏ القلوب، جمع فؤاد‏.‏ سمي بذلك لإنفاده، مأخوذ من فأد ومنه المفتاد، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم‏.‏

وقرأ ابن عامر بخلاف‏:‏ ‏{‏فاجعل أفئدة‏}‏ بياء بعد الهمزة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من الناس‏}‏ تبعيض، ومراده المؤمنون، قال مجاهد‏:‏ لو قال إبراهيم‏:‏ أفئدة الناس- لازدحمت على البيت فارس والروم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ لحجته اليهود والنصارى‏.‏ و‏{‏تهوي‏}‏ معناه‏:‏ تسير بجد وقصد مستعجل، ومنه قول الشاعر ‏[‏أبو كبير‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

وإذا رميت به الفجاج رأيته *** يهوي مخارمها هويَّ الأجدل

ومنه البيت المروي‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

تهوي إلى مكة تبغي الهدى *** ما مؤمنو الجن كأنجاسها

وقرأ مسلمة بن عبد الله‏:‏ «تُهوي» بضم التاء، من أهوى، وهو الفعل المذكور معدى بالهمزة، وقرأ علي بن أبي طالب ومحمد بن علي ومجاهد «تَهوَى» بفتح التاء والواو‏.‏ وتعدي هذا الفعل- وهو من الهوى- ب «إلى»، لما كان مقترناً بسير وقصد‏.‏ وروي عن مسلم بن محمد الطائفي‏:‏ أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكان مكة من الثمرات بعث الله جبريل فاقتلع بجناحه قطعة من أرض فلسطين- وقيل من الأردن- فجاء بها وطاف حول البيت بها سبعاً، ووضعها قريب مكة، فهي الطائف، وبهذه القصة سميت، وهي موضع ثقيف، وبها أشجار وثمرات وثم هي ركبة‏.‏